يتحدَّد السَّفرُ: إمَّا بطولِ المسافةِ وبُعدِها، وإمَّا بطولِ الإقامةِ
اسمُ السَّفرِ يكونُ إمَّا بطولِ المسافةِ وبُعدِها، وإمَّا بطولِ الإقامةِ، وهذا مِن أحسن ما قيل في تحديد ضابط السَّفر [1]، فالسَّفرُ بالطَّائرةِ إلى "جدّة" مثلًا، اسمُه سفرٌ نظرًا إلى بُعدِ المسافةِ، ومَن سافر عشرينَ أو ثلاثينَ كيلو مترًا وبقي يومين أو ثلاثة، فهذا سفرٌ أيضًا لطول الإقامة ولو كانت المسافةُ قريبةً.
ويستشهدُ مَن يذهبُ لهذا المذهبِ: بقصرِ أهلِ مكّةَ مع النَّبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- "بعرفةَ"، والقصرُ لا يكونُ إلَّا في سفرٍ، والذين يُحدّدونَ بالمسافةِ يقولونَ: ليسَ لأهلِ مكّةَ أن يقصروا في عرفةَ، ولكنَّ الصَّحيحَ: القولُ بأنَّ الحجّاجَ يقصرونَ جميعًا، أهلُ مكّةَ وغيرهم، والحُجّةُ: أنَّ أهلَ مكَّةَ قصروا مع النَّبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بعرفةَ ولم يأمرْهم بالإتمام، كما أمرَهم يومَ كانوا في بطنِ مكّةَ حيثُ قال لهم: (أتمّوا يا أهلَ مكّةَ؛ فإنّا قومٌ سفرٌ)[2]
وجابرٌ -رضي اللهُ عنه- نقلَ لنا صفةَ حجّةِ النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-[3] وذكرَ الجمعَ بعرفةَ والجمعَ بمزدلفةَ، ولم يذكرْ أنَّ أهلَ مكةَ مُيّزوا بحكمٍ، وهكذا النَّاسُ بعدَ النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- كانوا يُصلّونَ مع الأئمةِ والخلفاءِ كعمرَ، ولم يكونوا يُتمّونَ. [4]
والمشهور في المذهب أنَّهم قدروا مسافة السَّفر: بأربعةَ بُردٍ[5]، وهي وفق المقاييس الحديثة تعادل (80 كيلو متر)، وهذا يمكنُ أن يُقالَ أنَّه مذهبُ الجمهورِ [6]، وليسَ فيه حديثٌ صحيحٌ مرفوعٌ، ولعلَّ أصحَّ ما فيه أثرٌ عن ابنِ عباسٍ، والصَّحيحُ أنَّه موقوفٌ عليه: "لا قصرَ إلَّا في أربعةِ بُرُدٍ"[7]
وقال بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّه ليس لمسافةِ القصرِ حدٌّ محدودٌ، بل القصرُ مربوطٌ بالسَّفرِ مطلقًا، فما كان سفرًا شُرعَ فيه القصرُ[8].
وأقوالُ النَّاسِ في هذا مختلفةٌ كثيرًا[9]، فهي مِن المسائلِ التي اتَّسعَ فيها الخلافُ، وفي الحقيقةِ أنا أجدُ أنَّ هذا ضابطٌ حسنٌ، يعني اسم السَّفرِ يكونُ إمَّا بطولِ المسافةِ وبُعدِها، وإمَّا بطولِ الإقامةِ. [10]
وقد صح عن عمر بن الخطاب من طرق ثابتة أنه قال لما حج: "يا أهل مكة، أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر" أخرجه مالك 2/ 206، رقم 504-505، وعبد الرزاق 4369 -4371، وابن أبي شيبة 3861- 3865
وذكر البخاري قبل حديث 1086 معلقًا عن ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهما-، أنهما كانا يقصران، ويفطران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا". وينظر: الإرواء 3/13
